21/11/2025
من الفهم للتطبيق
الإنسان يمتلك فضولًا فطريًا يدفعه إلى الفهم والتجريب منذ لحظاته الأولى في الحياة. هذا الفضول لا يعمل كحافز عابر، بل يمثل آلية بيولوجية ومعرفية توجه إدراكه للعالم وتجعله يطرح الأسئلة ويعيد تفسير ما يراه. التعلم لا يبدأ في لحظة دخول المدرسة، بل يتشكل قبل ذلك بوقت طويل داخل سياقات الحياة اليومية.
تاريخ الإنسان يكشف أن التجربة الشخصية ليست المصدر الوحيد للمعرفة. المجتمعات عبر العصور طورت طرقًا مختلفة لحفظ خبراتها؛ بدأت بالنقوش على جدران الكهوف، ثم البرديات والألواح الطينية وجلود الحيوانات، وصولًا إلى الكتب والصحف والمكتبات الحديثة. هذا الكم الهائل من التوثيق شكّل ذاكرة جماعية ممتدة، تسمح لكل جيل بأن يرث خبرات من سبقه دون أن يعيد اكتشاف العالم من الصفر.
هذا التراكم المعرفي نقل الإنسان من مجرد كائن يلاحظ الظواهر إلى كائن قادر على التحليل والاستنتاج وبناء الفرضيات. كل خطوة في تاريخ التدوين ساهمت في تعزيز قدرة الإنسان على التفكير المنظم. فالنقوش الأولى حفظت الخبرات الحسية المباشرة، بينما سمحت الكتابة لاحقًا بنقل الأفكار التجريدية والتصورات المعقدة. مع الزمن أصبحت المعرفة ليست مجرد تسجيل للخبرة، بل وسيلة لفهم العلاقات بين الظواهر وتوقع ما يمكن أن يحدث بناءً على ما تمّ تعلمه مسبقًا.
ومع تطور أساليب حفظ المعرفة، تطور الوعي الإنساني ذاته. فوجود تاريخ مكتوب يمنح الفرد إطارًا مرجعيًا لفهم تجربته الخاصة؛ حيث لا تُقرأ الأحداث كوقائع منفصلة، بل كجزء من رحلة طويلة في مسار التعلم البشري. هذا الارتباط بين التجربة الفردية والذاكرة الجمعية هو ما جعل عملية التعلم أكثر عمقًا، وأكثر قدرة على تشكيل التفكير النقدي واتخاذ القرار.
التراكم المعرفي الذي صنعته الخبرة الفردية والذاكرة الجمعية عبر التاريخ يكشف أن التعلم ليس حدثًا مفصولًا عن سياقه، بل عملية ممتدة تتداخل فيها الخبرة الحياتية مع الممارسات المنظمة. هذا الفهم يوضح أن الإنسان يتعلم من مستويين متوازيين يتداخلان باستمرار:
ـ مستوى يعيش فيه الخبرة اليومية بشكل غير مقصود، ويكتسب منه العادات والنماذج السلوكية والمعاني الأولى للعالم
ـ ومستوى آخر تقوم فيه المجتمعات بتنظيم المعرفة في صورة مناهج وأهداف وأساليب تدريس.
هذان الشكلان، التعليم العرضي والتعليم المقصود، لا يعملان ككيانين مستقلين، بل يمثلان امتدادًا طبيعيًا لمسار واحد يبدأ بالخبرة الخام ويتطور عبر التخطيط والتقنين، مما يجعل كل تعلم جديد جزءًا من تراكم مستمر لا ينفصل عن جذوره الأولى.
فالتعليم العرضي والمقصود ليسا نظامين متوازيين فقط
بل هما قطبان يتغذى كل منهما من الآخر.
التعليم العرضي يبدأ منذ الولادة داخل الأسرة والمجتمع.
هو مصدر للأمثلة الحسية، للعادات، وللنماذج السلوكية.
هذا النوع يكوّن مخزونًا أوليًا من الخبرات التي يعتمد عليها الطفل في فهم العالم.
المجتمع المكتوب والمحفوظ سابقًا يزيد أثر التعليم العرضي لأنه يعطي الطفل مرجعًا تتطابق معه تجاربه اليومية.
التعليم المقصود يبني على ما وفره التعليم العرضي.
التعليم الرسمي يضع أهدافًا ومناهج وأدوات.
لكن نجاحه مرتبط بمدى ملاءمته لمخزون الخبرات السابق لدى المتعلمين.
المتعلم لا يبدأ من الصفر
لذلك يجب أن تصمم الخبرات التعليمية الرسمية لتربط المعارف الجديدة بما يعرفه المتعلم بالفعل.
التعليم العرضي يزوّد المتعلم بالمواد الخام من خبرة الحياة.
التعليم المقصود يعالج هذه المواد ويحوّلها إلى معرفة منظمة قابلة للتطبيق.
تحقيق تعلم فعّال يتطلب دمج ما هو مقصود مع ما هو عرضي بتصميم واعٍ يربط بين خبرات الفرد والمرجع التاريخي والثقافي للمجتمع.
التعليم لا يحدث تلقائيًا. فيجب أن ترتب له وتبنيه على قواعد علمية تحكم السلوك.
علماء السلوك وضحوا أن التعلم يرتبط بتقوية السلوك أو إضعافه. هذا ما طرحه سكنر عندما شرح أن السلوك يتكرر إذا حصل على تعزيز، ويتلاشى إذا لم يجد نتيجة مفيدة. هذا ما يجعل المعلم مسؤولًا عن تصميم بيئة تعليمية تحفّز السلوك الأكاديمي وتقلل السلوك المشتت.
عندما نفهم هذه القوانين، نصبح قادرين على تنظيم الموقف التعليمي.
فنعرف متى نستخدم التعزيز الفوري
ومتى نربط المتعلم بالخبرة الواقعية
ومتى ندعم فضوله الطبيعي.
المعلم الذي يفهم أساسيات التعلم السلوكي والبنائي يقدم بيئة تتيح للطفل أن يبني معرفته بدل أن يتلقاها فقط.
الخبرات غير المقصودة تشكل جزءًا ضخمًا من تعلم الطفل.
لكن الخبرة المقصودة هي التي تنقل هذا التعلم من مستوى العشوائية إلى مستوى البناء.
هنا يظهر دور التصميم التربوي:
ـ تخطط للأنشطة
ـ ترتب الخبرات
ـ ربط التعلم بسياقات الطفل اليومية
هذا ما أكدته النظرية البنائية حين اعتبرت التعلم عملية نشطة يبني فيها المتعلم المعرفة من خلال تفاعله مع العالم.
عندما نضع هذا كله في منظومة واحدة، نفهم أن التعليم الفعّال يجمع بين خبرة الطفل الذاتية من الواقع، وخبرة تعليمية مقصودة تعتمد على فهم واضح لقوانين التعلم.
بذلك نساعد الطفل على الانتقال من التجربة إلى الفهم
ومن الفهم إلى التطبيق.
والحديث عن العلم لا ينتهي
لذا للحديث بقية
ما دام في العمر بقية.
باحث دكتوراه في الصحة النفسية وعلوم التربية
المراجع
ألبرت باندورا. (1977). نظرية التعلم الاجتماعي.
جون ديوي. (1938). الخبرة والتعليم.
جان بياجيه. (1970). الإبستمولوجيا الجينية.
بورَس فريدريك سكينر. (1953).
ليف سيميولوفيتش فيجوتسكي. (1978). العقل في المجتمع: تطور العمليات النفسية العليا.