21/10/2025
هجرة المآزر البيضاء..
مبدئيًا، المكان الصحيح للإنسان هو بين أهله ومن يحب، والمكان الطبيعي للطبيب هو المستشفى، كما أن مكان السمكة هو البحر المالح. لكن حين يُطرد الإنسان من بيئته، أو يُحاصر في مهنته، تبدأ الهجرة.
الطبيب الجزائري لا يهاجر مرة واحدة، بل يمر بأربع هجرات متداخلة، تبدأ من الجغرافيا وتنتهي بالهوية. وليس المال دائمًا هو السبب. فكثير من أصحاب العيادات الكبرى، ممن يملكون الاستقرار المالي، اختاروا الهجرة بحثًا عن شيء أعمق: عن الراحة النفسية في بيئة لا تُرهقهم بالشك والضغط، عن الاحترام المهني، عن نمط عيش متوازن، عن العلم والتطور، وعن الإبداع الذي يُحتضن لا يُقصى.
1. الهجرة الأولى: هجر المسقط أو العودة إليه
ليست دائمًا مغادرة من الداخل إلى المدن الكبرى، بل أحيانًا هجرة عكسية نحو الهامش، نحو ما تبقّى من فرصة. بعض الأطباء يُغادر العاصمة نحو قرى نائية، بحثًا عن استقرار أو هروبًا من ضغط المدن، وآخرون يُغادرون الهامش نحو المركز، بحثًا عن الاعتراف أو لقمة العيش. الاتجاهات كلها مباحة حين يُصبح الرزق هو البوصلة، لا الانتماء. الطبيب يُغادر الجذور أو يعود إليها، لا حبًا ولا كرهًا، بل استجابة لنداء الضرورة.
2. الهجرة الثانية: من القطاع العام إلى الخاص
هجرة من الانتماء إلى الاحتمال. من راتب لا يكفي، إلى دخل غير مضمون. من بيروقراطية قاتلة، إلى ضرائب خانقة. من خدمة عمومية، إلى سوقٍ يخلط بين المهنة والتجارة. الطبيب لا يختار، بل يُدفع دفعًا.
3. الهجرة الثالثة: من الوطن إلى الخارج
حين تنعدم الخيارات، يُصبح الرحيل الجغرافي ضرورة. الطبيب لا يطلب امتيازًا، بل كرامة. لا يهاجر بحثًا عن الرفاه، بل عن بيئة تحترم علمه وإنسانيته. الوطن يتحول إلى محطة عبور، لا إلى بيت.
4. الهجرة الرابعة: هجر المهنة نفسها
هي الهجرة الأعمق، والأكثر وجعًا. حين يُطفأ الشغف، ويُمارس الطب كحرفة لا كرسالة. حين يتحول الطبيب إلى مندوب مبيعات، أو موظف إداري، أو منسحب بصمت من كل ما كان يؤمن به. هذه ليست هجرة مهنية، بل انسحاب من الذات.
هذه الهجرات ليست متتالية، بل متداخلة. يعيشها الطبيب في جسده، في يومياته، في صمته. من الجذور إلى المهنة، ومن الحلم إلى الضرورة. والحل؟ ليس في التكيّف مع الانحدار، بل في إعادة بناء منظومة تُعيد للطبيب مكانته، وللوطن كفاءاته، وللإنسان حقه في البقاء دون أن يُغادر ذاته.
وكل هذه الهجرات ليست بلا ثمن. ثمن يُدفع من العمر، من الحياة، من الراحة النفسية، ومن الاستقرار. ثمن لا يُرى في الإحصاءات، لكنه يُكتب في ملامح من غادروا بصمت، وفي وجوه من بقوا دون أمل.