10/11/2025
كلّنا نظن أننا ننجو حين نرفض ما أوجعنا.
نقسم في أعماقنا أننا لن نصبح مثلهم،
أنّ التاريخ سيتوقف عندنا، وأنّنا سنكسر الدائرة.
لكن الجرح، حين يُترك بلا شفاء، لا يموت
بل يتحوّل إلى سلوك جديد، إلى دائرة أخرى بلون مختلف.
كريم محمود عبد العزيز لم يُعد فقط مشهد أبيه في الحياة، بل أعاد صدى الألم الذي لم يُحتوَ.
الطفل الذي تألم من انفصال والديه، لم يشفَ؛ كبر وفي داخله الفراغ نفسه،
فصنع بعفوية الذاكرة ذات المشهد الذي كرهه.
ليس لأنّه أراد، بل لأنّ اللاوعي لا يُفرّق بين الرفض والتكرار، هو فقط يعيد ما لم يُفهم بعد، ليقول: “انظر إليّ.”
معظم من مرّوا بالصدمة لا ينجون منها فعلاً،
بل يختارون أحد شكلين للبقاء:
إمّا أن يتوحّدوا مع المؤذي،
وإمّا أن يعيشوا حياتهم كلها في حربٍ معه.
والشكلان في النهاية وجهان لعملة واحدة،
عملة ما زالت تحمل توقيع الألم الأول.
الابنة التي كانت تبكي تحت يد أم قاسية،
تكبر لتصبح أمًّا تخاف أن تكون مثلها،
فتغدو متساهلة إلى حدّ العجز،
وفي كلا الحالين ما زال “صوت الأذى” هو الذي يربّي.
الأول يصرخ بالعنف، والثاني يهمس بالخوف،
لكن لا أحد منهما تعافى فعلاً.
التعافي لا يشبه الثورة، ولا يشبه الانتقام،
ولا يعني أن نصبح عكس من آذانا.
التعافي يعني أن نصير أحرارًا من الحاجة لأن نكون نقيضًا لأيّ أحد.
أن نعيد الحكاية من بدايتها — لا لنغيّر أحداثها، بل لنفهمها، ونغفرها، ونختار أن نكملها بطريقتنا.
كريم لم يكرّر أباه،
بل كرّر وجعه، كي يراه من الخارج هذه المرّة.
ربما هي فرصة النفس لتفهم نفسها،
لأنّ ما لم يُشفَ يعود إلينا متخفّيًا في ملامحنا الجديدة،
حتى نجرؤ أخيرًا على قول الحقيقة:
إننا لا نُؤذِي حين نكره المؤذي،
بل حين لا نرى الجرح الذي جعلنا نشبهه.
ربما لهذا السبب، كان دعاء السكينة هو أكثر ما يلامس النفس التي تعبت من الدوران في دوائر الوجع.
ذلك الدعاء الذي يقول:
“ #اللهم امنحني السكينة لأتقبل ما لا أستطيع تغييره، والشجاعة لأغيّر ما أستطيع،
والحكمة لأُميّز بينهما.”
كأن النفس بعد كل هذه الدروس لا تبحث عن انتصار، بل عن سكونٍ يشبه الفهم.
أن تدرك أن كل ما حدث — التكرار، الألم، الرفض، وحتى الارتباك — لم يكن عبثًا، بل طريقًا لتصل إلى تلك اللحظة الهادئة التي لا تريد فيها أن تكون ضد أحد، ولا شبيهة بأحد، بل فقط صالحة للسلام.