30/11/2025
ترددت كثيرا في نشر هذه القصة ولكن صاحبتها أصرت على نشرها لينتفع بها الجميع وخاصة النساء الحوامل.
كان الجو خارج العيادة بارداً ذلك اليوم، لكن الداخل كان أكثر برودة. حين دخلت تلك المريضة التي علمتني درسا مُهِمَا لن انساه ماحييت، كانت عيناها تحملان ذلك الخوف الصامت الذي تعرفه كل أم حامل.
"دكتورة.." - صوتها ارتجف كما ترتجف ورقة في مهب الرياح - "أشعر أن حركتهما... كادت تتوقف. منذ البارحة وأنا أحترق من الحمى، بحثت في كل المنزل عن حبة براسيتامول واحدة.. لكن دون جدوى ولم أرد ازعاج أحد منتصف الليل..".
نظرت إلى عينيها العميقتين ورأيت فيهما بحراً من الهواجس. تلك العينان اللتان عودتاني في كل زيارة سابقة على البسمة، كانتا اليوم تحملان نظرة مختلفة.
"منذ متى وهذه الحمى ترافقك؟" سألتها وأنا أحاول إخفاء قلقي.
"ثلاثة أيام... لكن البارحة... كانت الجحيم بعينه" - مسحت جبينها المتعرق - "كنت أخاف من الأدوية... لكن عندما لم أعد أشعر بحركتهما كما اعتدت... أتيت".
أجلستها على سرير الفحص، يداها ترتجفان بين يديّ. شعرت ببرودة أناملها وهي تشبث بي كمن يغرق.
عندما بدأت فحص الإيكوغرافي... كان الصمت يثقب الآذان. نظرت إلى الشاشة... ثم نظرت مرة أخرى. لم أصدق ما أراه. القلبان الصغيران اللذان كانا ينبضان كنسيم الربيع... توقفا.
جمد اللسان في فمي. كيف أقول لها أن البراعم التي كانت ترويها بأحلامها كل ليلة... قد ذبلت؟ كيف أخبرها أن الأمل الذي حملته ستة أشهر... قد انقطع؟
تذكرت وجهها المشرق في الزيارة الماضية، وهي تضحك: "دكتورة، انظري! يبدو أن أحدهما يلوح لي!". وتذكرت صوتها العذب وهي تطلب: "هل يمكنني سماع نبضات قلبيهما مرة أخرى؟ أحب تلك الموسيقى أكثر من أي لحن في العالم".
التفتّ إليها... ورأيت دموعاً تترقرق في عينيها قبل أن أنطق بكلمة واحدة. كأن قلبها الأمومي قد أدرك الحقيقة قبل أذنيها." - همست والكلمات تكاد تختنق في حلقي - "أنا آسفة"...
لم أنته من الجملة حتى انهمرت دموعها صامتة، كالمطر على زجاج النافذة. لكن ما قالته بعد ذلك صدع قلبي إرباً:
"كنت أحلم البارحة... أنني أدفنهما" - صوتها يكاد يكون همساً - "قلت لأمي: هما يرحلان... قالت: إنه مجرد حلم...لكن قلبي كان يحس".
أمسكت بيديها وهي ترتجف، وشعرت وكأن العالم كله قد توقف. لم تبكِ بحرقة، لم تصرخ... بل انحنت كما تنحني السنبلة تحت وطأة الثلج.
"الحمد لله..." - همست وعيناها شاخصتان نحو السماء - "لطالما علمت أنني أستلفهما... كانا هبتين ثمينتين... والله أعطى والله أخذ".
رأيت في عينيها كل أحلام الأمهات المكسورة... كل ليلة قضتها تتخيل وجهيهما... كل اسم اختارته ثم شطبته... كل ثوب صغير اشترته وأخفته في الدرج.
عندما غادرت العيادة، كانت تحمل في عينيها جرحاً لن يندمل أبداً، لكنها التفتت إليّ عند الباب وقالت: "ادعي لي... أن يرزقني الله صبراً... وأن يجعلها في ميزان حسناتي".
ذلك اليوم، بعد خروجها... انفجرت باكية. تعلمت أن بعض الدموع لا تحتاج إلى صوت... وأن بعض الأحزان أكبر من أن تحتمل.
في الزاوية الهادئة من العيادة... بقيت صورة الإيكوغرافي شاهدة على أن بعض القلوب تتوقف عن النبض... لكنها لا تتوقف عن الحب.