18/10/2025
كذبةُ الانتساب إلى الاعتزال: حين يلوذ الزائفون بمذهبٍ لم يفهموه!.
----
في زمنٍ التبست فيه المفاهيم، وصار التمويه على العامة بابًا من أبواب الشهرة، خرج بعض الكُتّاب والمثقفين المعاصرين مدّعين الانتساب إلى مذهب الاعتزال، زاعمين أنّهم امتدادٌ للعقلانية الإسلامية القديمة، وأنّهم يحيون تراث التفكير الحرّ في مواجهة ما يسمّونه بالجمود.
غير أنّ هذه الدعوى -عند التحقيق- كذبٌ بيّن وتزييف للانتماء، إذ لا صلة تربط بين أولئك الداعين اليوم باسم الاعتزال، وبين المعتزلة الأوائل الذين -على ما في مذهبهم من خطأ- كانوا مؤمنين بالله ورسوله، مدافعين عن الإسلام ضد الملحدين وأصحاب الملل الباطلة.
----
أولًا: دعوى باطلة وغاية مكشوفة.
من أبرز من روّج لهذه النسبة في العصر الحديث؛ ذاك المدعو "إبراهيم عيسى"، إذ أعلن مؤخرا -كما نمى لعلمي- أنه "معتزلي الفكر".
وهذه النسبة -لمن يتتبع مسيرته الفكرية- لا تعدو أن تكون غطاءً إعلاميًّا لتمرير نزعة علمانية متطرفة.
فكيف يُنسب إلى الاعتزال من قضى عمره في السخرية من الوحي، والتقليل من شأن الشريعة، والتماهي مع عقائد أهل الملل الأخرى في إنكار الغيب، بل في الإشادة بالمناهج الغربية المناقضة للدين؟!.
إنّ الاعتزال -رغم انحرافه العقدي- كان مذهبًا داخل دائرة الإيمان، حاول أصحابه -على أخطائهم- التوفيق بين النقل والعقل، أما هؤلاء المدّعون، فـ ينقضون النقل جملةً وتفصيلًا، ويُقصون الدين من أصل الحياة.
لقد أرادوا بهذه الدعوى أن يتعلّقوا بنسبة فكرية تُخفي خواءهم المعرفي، وأن يُظهروا أنفسهم بمظهر المصلحين المتنورين، مستغلّين جهل الناس بمذاهب الإسلام، ومموّهين بأنّ لهم سلفًا في التاريخ.
غير أنّهم -في الحقيقة- أبعد الناس عن الاعتزال علمًا ومنهجًا وصدقًا؛ إذ لم يَرِثوا عن المعتزلة سوى الاسم، بينما فقدوا الإيمان الذي كان يحرك أولئك، والنية التي كانت تدفعهم للدفاع عن الدين.
----
ثانيًا: لمحة عن المذهب الحقيقي.
تُنسب نشأة الاعتزال إلى واصل بن عطاء (ت 131هـ)، الذي فارق حلقة الحسن البصري في البصرة بعد خلاف في حكم مرتكب الكبيرة، فقيل: اعتزلنا واصل، فغلب عليهم الاسم.
وقد أسس المعتزلة مذهبهم على خمسة أصول شهيرة:
1- التوحيد: بتنزيه الله عن الصفات الزائدة على الذات.
2- العدل: بإثبات عدل الله ونفي نسبة الشر إليه.
3- الوعد والوعيد: بإثبات الثواب والعقاب قطعًا.
4- المنزلة بين المنزلتين: في حكم مرتكب الكبيرة.
5- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: مطلقا وعلى كل حال.
كانت تلك الأصول محاولة عقلية جادّة لتنزيه الإله وتفسير أفعاله، لكنها أوقعت أصحابها في تأويلات مخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة، فرفضوها من جهة العقيدة، مع الاعتراف بجدّها العلمي من جهة الفلسفة والمنهج.
----
ثالثًا: موقف أهل السنّة من الاعتزال.
نظر أهل السنّة إلى الاعتزال على أنّه مذهب منحرف في الأصول العقدية، إذ قدّم العقل على النص، وتأوّل صفات الله تأويلًا مفرطًا، وقال بخلق القرآن. لكنهم لم يُكفّروا المعتزلة بالجملة، بل عدّوهم من أهل القبلة الذين أخطأوا في الفهم والتأويل.
أما المعاصرون الذين يتسترون بلبوس الاعتزال، فإنّ حالهم أشدّ خطرًا؛ لأنهم ينكرون أصل الدين نفسه، لا يخطئون في فهمه. فالمعتزلي القديم كان يؤمن بالله والآخرة والنبوة، أما هؤلاء فـ ينكرونها أو يسخرون منها، ثم يزعمون الانتساب إلى مذهبٍ عقلي إسلامي!.
وهذا يجعل كذب النسبة واضحًا لا لبس فيه، بل ويجعلها اعتداءً على التاريخ والعلم معًا.
----
رابعًا: فضل المعتزلة رغم مخالفتهم.
مع ما في مذهبهم من أخطاء، فإنّ فضل المعتزلة في الدفاع عن الإسلام لا يمكن إنكاره.
لقد وقفوا في وجه الدهرية والملاحدة والزنادقة، وكتبوا ردودًا عقلية قوية على الفلاسفة وأصحاب الملل المنحرفة.
ومن مدرستهم خرجت أسماء لامعة كـ النظّام وأبي الهذيل العلاف والجاحظ، الذين أسهموا في بلورة الفكر الإسلامي الجدلي والمنطقي.
بل أفاد بعض علماء السنّة من طرائقهم في المناظرة دون أن يتبنّوا عقائدهم، كما فعل الإمام الجويني والغزالي، فكان في منهجهم العقلي نفعٌ رغم ما فيه من خلل.
ولذلك كان المنصفون من علماء الإسلام يقولون: نقبل منهم ما وافق الحق، ونردّ ما خالفه.
----
خامسًا: مصير المذهب وأثره الباقي.
تراجع الاعتزال بعد محنة القول بخلق القرآن في عهد المأمون، حين ارتبط اسمه بالقهر السياسي، فنبذه الناس، وضعف حتى اندثر كمذهبٍ قائم.
ومع ذلك، بقي أثره العلمي حاضرًا في مدارس الكلام والفلسفة الإسلامية، وأسهم في ترسيخ التفكير المنطقي والجدل العقلي داخل الحضارة الإسلامية، حتى عند مخالفيه.
----
خاتمة:
إنّ الانتساب الكاذب إلى الاعتزال ليس سوى حيلة فكرية يتذرع بها من عجز عن حمل مسؤولية موقفه الحقيقي من الدين.
فمن لم يجد له جذورًا في الإسلام، لجأ إلى سرقة اسمٍ من تاريخه، ليغطي به خواءه الفكري وضلاله العقدي.
أما المعتزلة الأوائل -مع خطئهم- فكانوا رجال فكرٍ وعقيدة، لا دجّالين إعلاميين، وكانت لهم نية الدفاع عن الإسلام لا تقويضه.
يبقى الاعتزال -في ميزان الإنصاف- مذهبًا غير معتبر عقديًّا، لكنه صادق النية في الدفاع عن التوحيد.
أما هؤلاء الذين يلوذون باسمه اليوم، فهم أبعد الناس عنه عقلًا وإيمانًا، جمعوا بين كذب النسبة وجهل العقيدة، فخسروا التاريخ كما خسروا الحقيقة.
وليراجع من شاء ما ورد في كتابي "حجة المتذمم" في شأن مذهب الاعتزال وأهله.
وصل اللهم وسلم وزد وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.