17/11/2025
زهرة في الرماد
كانت عينا يوسف رماديتين مثل الدخان الذي اعتاد أن يتنفسه. لم يكن في الثلاثين من عمره، لكن الحياة كانت قد سحقت روحه لعقود. لم يكن الهيروين مجرد مادة؛ بل كان رفيقاً صامتاً، سارقاً للوقت، وقاتلاً بطيئاً للأحلام.
بدأت القصة ببراءة زائفة، بفضول شاب يبحث عن "الهروب السريع" من ضغوط الحياة الجامعية التي لم يستطع مجاراتها. سرعان ما تحول الهروب إلى سجن. فقد يوسف وظيفته، وتركته خطيبته، وأصبح صوت أمه الحزين على الهاتف شيئًا يخشاه أكثر من نوبات الانسحاب.
عاش يوسف سنواته في زوايا الظل، مطارداً اللحظة العابرة من النسيان، والتي تتبعها ساعات طويلة من الشعور بالعار والذنب. كان جسده نحيلاً، وعظام وجهه بارزة، وكانت كل محاولة للتوقف تنتهي بسقوط مؤلم يعيده إلى قاع أعمق.
لكن في أعماق ذلك الرماد، بقيت شعلة صغيرة من الذات التي كان يوسف يتذكرها. في أحد أيام الشتاء الباردة، استيقظ على سرير مهترئ في غرفة قذرة، ونظر إلى انعكاسه في زجاج نافذة متسخة. للمرة الأولى منذ سنوات، لم يرَ مدمنًا فحسب، بل رأى طفلاً خائفًا محبوسًا في جسد متعب.
كان قرار التعافي هذه المرة مختلفاً. لم يكن وعداً لوالدته، ولا محاولة لإعادة حبيبته، بل كان قراراً من يوسف إلى يوسف.
بدأت الرحلة القاسية في مركز إعادة التأهيل. كانت الأيام الأولى جحيماً. الألم الجسدي والروحي كان طاغياً، لكن هذه المرة، لم يكن وحيداً. استمع إلى قصص الآخرين، وتحدث عن آلامه، وبدأ يعيد بناء الجسور المدمرة مع ذاته. تعلم أن الشعور بالألم هو جزء من الحياة، وليس إشارة للهروب منها.
تخرج يوسف من المركز وبدأ العمل في مقهى صغير. كان الأمر صعباً. كان كل يوم يشبه معركة. رائحة القهوة الذكية كانت تذكره بماضيه الذي كان يفضله مخدراً. في إحدى الليالي، مرّ به صديق قديم لا يزال في قبضة الإدمان. شعر يوسف بجاذبية قوية للعودة، بلمسة سريعة واحدة تنهي هذا الصراع اليومي المرهق. لكنه تذكر عيني الطفل الخائف في مرآة النافذة، وتذكر وعوده لنفسه.
استدار يوسف وابتعد. لم تكن خطوة كبيرة، لكنها كانت أعظم نصر حققه في حياته.
مرت السنوات. أصبح يوسف المدير المساعد للمقهى، ثم افتتح مقهاه الخاص الذي سماه "نور الصباح". لم يكن يوسف الجديد غنيًا، لكنه كان غنيًا بالسكينة والهدف. أصبح مستشاراً لمدمني التعافي، يشاركهم قصته، وعيناه، التي كانت رمادية يوماً ما، أصبحت الآن تلمع باللون البني الدافئ، مليئة باليقين.
علم يوسف أن التعافي ليس محطة وصول، بل هو مسيرة يومية. وها هو يقف في مقهاه، زهرة نضرة نمت من الرماد، شاهداً حياً على أن النهاية السعيدة قد تتأخر، لكنها تستحق كل صراع.
@المتابعين