17/10/2025
رحيل الشاعر السوداني عبد الوهاب “لاتينوس”.. حين كتب البحر نهايته قبل أن يبتلعه
فُجعت الأوساط الثقافية في السودان والعالم العربي بخبر وفاة الشاعر الشاب عبد الوهاب محمد يوسف، المعروف بلقبه الأدبي «لاتينوس»، غرقًا في مياه البحر الأبيض المتوسط، أثناء محاولته الهجرة إلى أوروبا عبر السواحل الليبية.
وبحسب موقع «عاين» السوداني، فإن الشاعر المنحدر من بلدة منواشي بإقليم دارفور، لقي حتفه بعد غرق القارب الذي كان يقله مع آخرين في رحلة الهجرة. وكان قد وصل إلى ليبيا قادمًا من السودان في رحلة محفوفة بالمخاطر، سعيًا لحياة أفضل بعيدًا عن أوجاع الحرب وضيق الأفق في وطنه.
من دارفور إلى البحر.. مسار من الكلمات والوجع
تخرّج عبد الوهاب من كلية العلوم الاقتصادية والاجتماعية بجامعة الخرطوم، وبرز اسمه في الأوساط الأدبية خلال السنوات الأخيرة من حياته كأحد أبرز الأصوات الشعرية الشابة في السودان.
عُرف بكتاباته الجريئة التي تناولت الاغتراب، والبحث عن الحرية، والخلاص من القهر السياسي والاجتماعي. كان حضوره لافتًا في الصفحات الثقافية داخل وخارج السودان، حيث نُشرت له قصائد عديدة تتسم بصدق التجربة وعمق المعنى.
«سأفرّ من وطنٍ يُلهب ظهري بالسياط»
من بين نصوصه التي لاقت انتشارًا واسعًا، قصيدةٌ كتب فيها بوجعٍ شخصي يُشبه وصية المغترب قبل الرحيل، يقول فيها:
> «سأفرُّ من وطنٍ يُلهب ظهري بالسياط ليلَ نهار،
سأفرُّ من امرأةٍ لا تعرف كيف تُطعمُ روحي رحيقَ جسدها،
سأفرُّ من كلِّ شيءٍ وأهربُ غيرَ مكترثٍ نحو العدم.»
كلماتٌ تُجسّد شعورًا مريرًا بالخذلان، وتكشف عن وعيٍ مبكرٍ بالرحيل كقدرٍ لا مفرّ منه.
«أن تموت في عرض البحر».. نبوءة شعرية تحققت
بعد إعلان خبر غرقه، تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي مقطعًا شعريًا منسوبًا إليه، بدا كأنه نبوءة مسبقة لموته:
> «أن تموتَ في عرضِ البحرِ،
حيثُ الموجُ يصطفقُ بصخبٍ في رأسكَ،
والماءُ يُأرجحُ جسدكَ
كقاربٍ مثقوب.»
المقطع الذي تناقلته منصات أدبية وإعلامية، حمل نبرة استسلامٍ لقدرٍ محتوم، وصار بعد وفاته رمزًا لمأساة جيلٍ من الشباب السودانيين الذين ابتلعهم البحر بحثًا عن الأمان.
الوداع المبكر
في نصٍّ آخر نُشر قبل رحيله بأسابيع، كتب لاتينوس كأنه يرثي نفسه بصوتٍ هادئٍ ووحيد:
> «في مقتبلِ العمر،
دون أن تبلغَ الثلاثين بعد،
ليس سيئًا أن تغادرَ باكرًا، أبدًا،
السيئُ أن تموتَ وحيدًا،
دون امرأةٍ تقول لك:
تعال إليَّ، حضني يتّسعُ لك،
دعني أغسلْ روحكَ من درنِ البؤس.»
نصٌّ يلخّص عزلة الشاعر ومعاناته الوجودية، وقد بدا للبعض نصًا وداعيًا مكتمل الملامح.
القصيدة الأخيرة: عبث الوجود وخراب العالم
آخر ما نُشر له من نصوص حمل عنوانًا رمزيًا، كأنه إعلان لنهاية محتومة، يقول فيه:
> «بثًّا، ستمضي نحو حتفكَ،
اليوم، أو غدًا، أو حتى بعد غد،
لا أحدَ بوسعهِ وقفُ عجلةِ الخراب
التي تسحلُ جسدَ الحياة.
عبثًا، لا شيء، لا خلاصَ سيأتي
في اللحظاتِ الأخيرة،
لينقذَ جثةَ العالم.
عبثًا، لا ضوءَ يومضُ
فيُفزعُ الليل،
عبثًا، كلُّ شيءٍ قد احتضر؛
الوقتُ، اللغةُ، الصرخاتُ، الحُلم،
الأغنياتُ، الحبُّ والموسيقى.
عبثًا، كلُّ شيءٍ قد تلاشى،
ولم يتبقَّ
غيرُ فراغٍ يصطخبُ بعنف،
غيرُ جثثٍ تدخلُ في صمتٍ كئيب،
وغيرُ خرابٍ ينسكبُ سخيًّا.»
قصيدةٌ تُعبّر عن يأسٍ وجودي عميق، وتختصر رؤية الشاعر للعالم الذي يغرق في الخراب.
صدمة الوسط الثقافي
أثار خبر وفاة لاتينوس موجة حزنٍ عارمة في الأوساط الثقافية داخل السودان وخارجه. كتب عدد من الشعراء والكتّاب منشورات تأبينية استذكروا فيها قصائده وحلمه البسيط بـ«وطنٍ لا يُجلد فيه الشعراء».
رأى كثيرون في رحيله تجسيدًا مأساويًا لأحلام جيلٍ سودانيٍّ محاصرٍ بالحرب والفقر والخذلان، بينما وصفه آخرون بأنه “شاعر كتب نهايته بيده، فكان البحر آخر بيتٍ في قصيدته”.
خاتمة
برحيل عبد الوهاب لاتينوس، فقد المشهد الثقافي السوداني صوتًا شعريًا نادرًا، جمع بين الحس الإنساني العميق والصدق الفني، وترك خلفه نصوصًا قصيرة لكنها خالدة، تتردد فيها أنين المنفى وصوت البحر.
كان البحر بالنسبة له رمزًا للحرية والخلاص، لكنه في النهاية صار قبرًا مفتوحًا على الأبدية.