30/10/2025
عبقريّة زيّاد الرّحبانيّ في حلّ النّزاع
من خلال أغنية: 🎶 «قال قايل عن حبّي»🎶
تحديد الإشكاليّة
في أغنية «قال قايل» التي غنّتها فيروز وكتبها ولحّنها زياد الرحباني، نسمع جملة افتتاحية تحمل نغمة اتّهامية:
"قال قايل عن حبّي وحبّك مش حلو."
الجملة تنقل شعورا بالارتباك والمراجعة. هل تراجعت حرارة العاطفة؟ هل تغيّر معناها؟
بهذه العبارة، يطرح زياد الإشكاليّة: الحبّ الّذي كان "حلو"، صار “مش حلو”. وهنا تبدأ رحلة البحث عن التّرميم.
من الإشكاليّة إلى الحلّ:
1. الاعتراف بالنّزاع
الاعتراف هو الخطوة الأولى نحو الحلّ. فبدل إنكار الأزمة، يُسمّيها زياد بلطف شعريّ دون إدانة.
ويقول عالم النّفس كارل روجرز (Carl Rogers): “الاعتراف بالمشكلة هو بداية التّغيير.”
فالكلمة هنا ليست شكوى، بل إخراج للشّحنة المكبوتة من حيّز التّجاهل إلى العلن.
2. الالتزام بإعادة البناء
"إلك منّي وعليّ عيده من أوّله"
هذه العبارة المفتاح تعبّر عن مبدأ الالتزام الذاتيّ. الخطاب لا يلوم الآخر بل يبدأ من “منّي عليّ” أي من الذات والتزاما تجاه الآخر.
في نظريّات إدارة الصّراع (Thomas–Kilmann Conflict Model)، تُعدّ المبادرة وإعلان النّوايا من أقوى مداخل التّفاهم، لأنّها تحوّل النّزاع من تقييم متبادل إلى تعاون مشترك.
3. تجاوز الماضي: المرونة والمسامحة
"قال قايل أشيا بشعة عنّي … معليش معليش..."
"ما تكسّر فيّي حتّى أمورك يتسهّلوا"
كلمة "معليش" اللّبنانيّة تتحوّل هنا إلى أداة مصالحة نفسيّة.
في علم النّفس الاجتماعيّ، في دراسات في مفهوم الغفران، (Enright & Fitzgibbons, 2015)، تُعدّ المسامحة الواعية فعلا تحويليّا، لا ضعفا.
زياد لا ينكر الجرح، لكنّه يختار تجاوزه.
بهذا، تتحول “المعليش” إلى جسر بين الجرح والاحتمال.
4. الأمل الإيجابيّ والتطلّع إلى الغد
"أيّامك قدّامك… إنت ما بيطلع منّك إلّا كل شي حلو"
هذه العبارة تختصر فلسفة علم النّفس الإيجابي (Positive Psychology) كما صاغها مارتن سليغمان (Martin Seligman):
“ركّز على ما يمكن أن يكون، لا على ما كان.”
زياد يدعو الطّرف الآخر إلى رؤية المستقبل بعين الجمال، لا بعين الخيبة. فالحبّ هنا يتحوّل من ذكرى إلى مشروع تجديد.
5. ثقافة عدم التكسير: دعوة إلى التّمهّل والحوار
"الحمدلله يوميّة في فضيحة… ما تكسّر فيّي حتّى أمورك يتسهّلوا"
هنا يلمّح زياد إلى واقع اجتماعيّ مملوء بالفضائح، لكنّه يقدّم بديلا أخلاقيّا وفكريّا.
لا تكسّر وتهدم حين تغضب، لا تتصرّف كمنتصر. فحين تتصرف كمنتصر، وتضرب وتستقوي، امورك لن تتسهّل، بل ستتعقّد الأمور اكثر.
وفي مقاربة الباحثة جوان ليدرَك (John Paul Lederach) في كتاب The Moral Imagination، يؤكّد أنّ السّلام الدّائم لا يُبنى بالهيمنة بل بالتّواضع والتّواصل.
زياد يترجم هذا المفهوم فنيّا بعبارة بسيطة: “ما تكسّر فيّي.”
6. النّيّة الصّادقة والفعل الإيجابي
"شو بيصير لو تنوي ترميلك كلمة حلوة..."
هنا نصل إلى التحوّل السّلوكيّ. الكلمة الطّيّبة ليست ترفا عاطفيّا، بل فعل إداريّ للنّزاع، يعبّر عن صدق النّيّة ويعيد التّوازن.
تذكّرنا الفكرة بقول دانيال غولمان (Daniel Goleman) في Emotional Intelligence: “النّيّة الإيجابيّة تُفعّل الذّكاء العاطفيّ وتحفّز التّفاهم.”
في حين من يرمي باللوم على الآخرين، وينصّبون أنفسهم أسيادا وقضاة، لتقييم النّاس، وإعطائهم شهادات، فهم الأبعد عن كلّ نيّة طيّبة، وأيّ فعل مثمر. ومع امثال السّلبيين هؤلاء نعرّج إلى فكرة من أغنية أخرى لزيّاد.
"في أمل" كمثال مواز
في مقاربة تامّليّة، أشار الدّكتور خالد غطّاس إلى أن أغنية زياد «في أمل» تأخذنا إلى ما يشبه الزّهد في النّقاش، وفي التّسليم بعدم جدواه.
“شو بتخبّر أصحاب وزوّار عنّي إنّي محدودة وبغار... حبيبي تنيناتنا منعرف شو صار”
الاثنان مسؤولان، يعرفان ماذا حدث، فلا جدوى من ثالث أوسابع أو تاسع... الاثنان يعرفان... وعلى كلّ منهما أن يفعل، لا أن ينظّر.
إفعل... تحرّك... بادر... دون تبرير... تنظير... أو تكسير.
زيّاد يصرّ على أنّ الحلّ ليس بالكلام بل بالفعل.
في المنهج التّدريبيّ الّذي نستخدمه في CEDARIZE نقول:
"اعترف، التزم، تجاوز، افعل فعلا إيجابيا، وأعلن النيّة الإيجابية وكن حاملها."
وهذا بالضّبط ما يصوغه زيّاد موسيقيّا.
في «قال قايل»، لا يقدّم زيّاد الرحباني أغنية حبّ عاديّة وحسب، بل درسا في إدارة النّزاع العاطفيّ والإنسانيّ.
هو لا يصرخ ولا يعظ، بل ينسج خطابا موسيقيّا يدعو إلى:
الاعتراف بالمشكلة دون جلد الذّات،
المبادرة بدل الاتّهام،
التّسامح بدل التّكسير والسّعي للانتصار،
الأمل والتّطلّع للمستقبل،
والفعل الإيجابيّ بدل تنصيب الذّات لتقييم الآخرين.
بهذا، تتحوّل الأغنية إلى مختبر للسّلام الدّاخليّ والمصالحة الإنسانيّة، وتؤكّد أنّ الفنّ عند زيّاد ليس ترفا جماليّا، بل أداة شفاء وتنوير.
#زيادالرحباني
#فيروز