03/11/2025
*الفراغ... ليس خاليًا كما نظن*
ليست فكرة الفراغ التام سوى وهم قديم. فحتى حين يبدو الفضاء خاليًا من كل شيء، فإنه في الحقيقة يعجّ بتقلبات طاقية دقيقة تحدث على مقاييس متناهية في الصِغَر. هذه التقلبات تُنشئ وتُفني باستمرار جسيمات قصيرة العمر تُعرف باسم الجسيمات الافتراضية.
تظهر هذه الجسيمات وتختفي بسرعة تفوق قدرتنا على رصدها مباشرة، لكنها مع ذلك تترك أثرها في العالم المادي. فالفراغ ليس سكونًا مطلقًا، بل حقل طاقة نابض بالحركة، يتفاعل باستمرار مع المادة والطاقة بطرق خفية ودقيقة.
ومن أبرز ما يكشف عن هذه الحياة الخفية في قلب العدم هو *تأثير كازيمير*: حين توضع صفيحتان معدنيتان متقاربتان في الفراغ، تتولد بينهما قوة جذب ناتجة عن استبعاد بعض الجسيمات الافتراضية من الحيّز الفاصل بين اللوحتين، مما يخلق فرقًا في الضغط يدفعهما نحو بعضهما البعض.
لقد أُثبت هذا التأثير في مختبرات العالم بقياسات دقيقة، ليبرهن أن حتى الفراغ، في صمته الظاهر، يموج بالقوى الكمومية التي لا تهدأ.
إن فهم *تأثير كازيمير* يفتح أمام الفيزيائيين نافذة على الطبيعة الكمية للفضاء والطاقة، ويذكّرنا بأن الكون أكثر حيوية وغموضًا مما يبدو. فما نسمّيه "الفراغ" ليس خواءً، بل *بحر من الطاقة الخفية* التي تواصل تشكيل العالم من حولنا.
*ما هو تأثير كازيمير*
في أواسط القرن العشرين، توقّع الفيزيائي الهولندي هندريك كازيمير أن الفراغ ليس ساكنًا كما يبدو، بل يمكنه أن يُولّد قوى مادية حقيقية. فقد لاحظ أن وضع صفيحتين معدنيتين متوازيتين على مسافة متناهية الصِغر داخل الفراغ يؤدي إلى قوة جذب دقيقة بينهما، مصدرها ليس أي مجال خارجي، بل الفراغ ذاته.
يحدث ذلك لأن بعض التذبذبات الكمومية تُستبعَد من الحيّز الفاصل بين اللوحتين، مما يخلق فرقًا في ضغط الطاقة الصفرية يدفعهما إلى الالتقاء.
لقد أُثبت هذا التوقّع تجريبيًا بعد عقود، ليصبح تأثير كازيمير شاهدًا مذهلًا على أن الفراغ الكوني ليس عدَمًا، بل بحرًا من القوى الخفية التي لا تكفّ عن الحركة.
*نبض الفراغ.. المعادلة في الصورة*
كلما صغرت الأبعاد Δx، Δy، Δz، وΔt ازدادت الطاقة الكامنة في هذا الحيّز، كما لو أن الفراغ نفسه يقاوم الانضغاط إلى العدم.
إنها صياغة رياضية لمبدأ هايزنبرغ لعدم اليقين، الذي يمنع السكون المطلق من الوجود. فحتى في غياب المادة، تظل الحقول الكهرومغناطيسية ترتعش، تُولّد وتُفني جسيمات افتراضية في لحظات متناهية القِصر، ناشرة في الكون طاقة الفراغ التي تمثّل الحد الأدنى لكل وجود.
هكذا يتحوّل “العدم” في الفيزياء إلى نَفَسٍ مستتر يملأ الكون بالحركة الخفية. إنه نبضٌ لا يُسمع، لكنه يؤكد أن الحياة لا تنطفئ حتى في قلب الفراغ وكأن الوعي الكوني ذاته يهمس من خلف المعادلة، معلنًا أن الصمت في جوهره شكل آخر من أشكال الوجود !