10/31/2025
حين يذوب الرفض .. تهدأ العاصفة
مقال شهر نوفمبر بجريدة اخبار الكاريزما .. صفحة ٢١ .....
https://charismadaily.com/wp-content/uploads/2025/10/Charismaaa-Newspaper-93-.pdf
كان هناك رجل يجلس على شاطئ البحربعد يوم طويل من التعب.
نظر إلى الأمواج المتلاطمة وحاول أن يمنعها من الارتطام، يلوح بذراعيه كما لو أن يده تستطيع السيطرة على الطبيعة نفسها. كلما دفع الموجة بعيدًا، عادت بقوة أكبر، وكأنه البحر يهمس له:
"كل مقاومة تولد المزيد من القوة… وكل محاولة للسيطرة تزيد الألم."
توقف الرجل لحظة، وأخذ نفسًا عميقًا... أغلق عينيه، وترك نفسه للتيار، وبدأ يشعر بأن جسده أخف، وأن قلبه بدأ يهدأ. في تلك اللحظة، أدرك سرًا بسيطًا وعميقًا في الوقت ذاته:
الألم ليس دائمًا في ما يحدث، بل في رفض ما يحدث ومحاولة مقاومته.
وهنا تبدأ قصتنا… قصة كل واحد منا، عندما يحاول
ان يسيطر على الحياة، وعندما يتعلم أن التسليم هو باب السلام الحقيقي، وأن الله يدبر كل شيء بحكمة أكبر مما نرى بأعيننا
هناك أوقات في الحياة نعيش فيها معركة غير مرئية،
لا مع الظروف، ولا مع الآخرين، بل مع أنفسنا.
المعاناة غالبًا ما تأتي من الرفض والمقاومة.
نرفض الفقد، نرفض الفشل، نرفض تأجيل أحلامنا، نرفض أي شيء لا يوافق توقعاتنا. ومع كل رفض،
نصنع ألمًا إضافيًا لأنفسنا.
تخيل لو أننا كل يوم نحاول السيطرة على كل شيء…
كم سيكون قلبنا مثقلاً؟
وكم ستتضاعف آلامنا؟
معركتنا تبدأ عندما نرفض ما يحدث، عندما نحاول بكل قوتنا أن نُغيّر شيئًا لا يُمكن تغييره في لحظته، فنغرق في مقاومة الواقع ظنًّا منّا أننا نحمي أنفسنا من الألم، بينما في الحقيقة نحن نُعمّق الجرح أكثر.
الألم الطبيعي في الحياة مؤقت ... فهو جزء من التجربة الإنسانية.... أما الألم الناتج عن المقاومة... فهو من صنعنا نحن ... ويستمر ما دمنا نتمسك بالرفض.
كل مقاومة تعني صراعًا إضافيًا ... وكل محاولة للسيطرة على ما لا نستطيع تغييره تعني مزيدًا من الغرق في وجعنا.
المعاناة ليست دائمًا في الحدث ذاته ... بل في الرفض.
نرفض الواقع، نرفض التجربة، نرفض خسارة أحبّائنا، نرفض تأجيل حلمٍ انتظرناه طويلًا، نرفض أن تُغلق الأبواب في وجوهنا، ونرفض أن نُجرَّد من السيطرة.
لكن، كم مرة وقفنا أمام البحر .. نحاول أن نمنع الموج من الارتطام بالشاطئ؟
كلما دفعنا الموج بأيدينا، عاد بقوة أكبر.
وكلما قاومنا، تعبنا أكثر.
المعاناة مش في اللي بيحصل…
المعاناة في رفضنا اللي بيحصل.
اللحظة اللي نقبل فيها، الوجع بيهدأ…
لأن السلام بيبدأ من جوّه.
أنت مش بتتألم من التجربة…
أنت بتتألم لأنك بتحاربها.
ولما تبطّل تحارب، المعركة بتنتهي...
حين نحاول السيطرة على مجرى الحياة، نُصبح كمن يعافر في التيار، ظنًا أنه يستطيع السباحة ضدّ النهر.
لكن الحقيقة أن كل مقاومة تُنتج مزيدًا من الغرق.
الألم الطبيعي جزء من التجربة، لكنه مؤقّت.
أما الألم الناتج عن المقاومة فهو من صنعنا نحن، ويستمر ما دمنا نرفض أن نرى ما وراء الحدث.
أحيانًا نعيش صدمة، أو خيبة، أو فقدًا مؤلمًا، فنشعر وكأننا في ظلمة حالكة، نتساءل:
“لماذا أنا؟ لماذا سمح الله بهذا؟”
وفي تلك اللحظة بالذات، نكون بين خيارين: إما أن نستسلم للألم ونتخبط فيه، أو أن نسلِّم بوعيٍ عميقٍ أن هناك حكمة إلهية لا نراها الآن، لكنها موجودة.
كثيرون يظنون أن “التسليم” يعني الاستسلام، أو التنازل عن السعي، لكنه في الحقيقة قمة القوة الداخلية والإيمان.
التسليم لا يعني الاستسلام، ولا يعني الضعف، بل هو قوة خفية تأتي من اليقين الداخلي.
عندما نُسلّم، نحن لا نتوقف عن العمل، بل نعمل بسلام داخلي، مؤمنين أن النتائج ليست في يدنا، وأن الله يدبر كل شيء في الوقت المناسب.
ان تُسلّم لا يعني أن تتوقف عن العمل أو عن المحاولة، بل أن تعمل وأنت هادئ القلب، مؤمن أن النتائج ليست بيدك، وأن الله يدبّر الأمور في الوقت الذي يراه مناسبًا.
التسليم يعني:
القبول بما يحدث كما هو، دون إنكار أو غضب.
الثقة بأن كل تجربة لها معنى، وأن كل ألم يعلّمنا درسًا... الاعتراف أن الحياة أكبر من سيطرتنا، وأن يد الله تلم كل شيء.
التسليم ليس هروبًا من الواقع .. بل احتضانٌ له بثقة.
أن تقول في قلبك:
“يا رب، لا أفهم الآن، لكنني أؤمن أنك تعمل في الخفاء. أعلم أنك ترى ما لا أرى، وتعلم ما لا أعلم.”
في لحظة التسليم، يتبدّد الخوف، لأنك لم تَعُد وحدك في الميدان. لقد سلّمت القيادة لمن يعرف الطريق أكثر منك. وحينها، يبدأ السلام الحقيقي في التشكل داخلك.
المقاومة تُبقيك في الماضي، بينما القبول يفتح لك باب الحاضر. حين نقبل، لا يعني أننا نوافق على الظلم
أو نُحب الألم،
بل أننا نُدرك أنه جزء من رحلة النضوج الروحي.
كل تجربة تحمل رسالة، وكل ألم يحمل بذرة وعي جديدة، وكل خسارة تزرع فينا عمقًا ما كنا لنبلغه لولاها.
نحن لا نكتشف قوة إيماننا في الأيام المشرقة،
بل في الليالي التي يغيب فيها الضوء. هناك، في العتمة، تُختبر قلوبنا.
هل سنُحارب الحياة؟
أم سنسير معها بسلام؟
القَبول لا يعني أن نتخلى عن أحلامنا، بل أن نترك لها المساحة لتنمو في وقتها الصحيح. أن نكفّ عن اقتلاع البذرة كل يوم لنتأكد إن كانت تنمو أم لا،
بل نسقيها ونثق أن الجذور تعمل في الخفاء.
أحيانًا ننظر إلى الأحداث ونُحكم عليها بأنها “سيئة”، فقط لأنها لا تُناسب توقّعاتنا. لكن كم من مرة، بعد سنوات، اكتشفنا أن ما ظننّاه خسارة كان أعظم مكسبٍ روحي في حياتنا؟.. كم من مرة تأخّر الطريق لنكتشف أن التأخير كان حماية؟.. كم من مرة أغلق الله بابًا لأننا لم نكن نحتمل ما خلفه؟
إننا نرى جزءًا صغيرًا من الصورة، بينما الله يرى اللوحة كاملة. كل تفصيلٍ صغير، كل منعطفٍ مؤلم،
كل لقاءٍ أو فُراق، يدخل في نسيجٍ مُعقّد يُشكّل قصتنا.
ولولا الظلال، لما اكتمل عمق اللوحة.
عندما نبدأ بقبول الواقع كما هو، دون شروط، يذوب الألم شيئًا فشيئًا. تتحول الدموع إلى طاقة نقاء، والخسارة إلى بصيرة، ويصبح القلب أكثر لينًا، اكثر وعيًا، أكثر قربًا من الله.
حينها نكتشف أن التجربة لم تكن لتكسرنا، بل لتُعيد ترتيبنا من الداخل.
كأن الله يقول لنا بلطف:
“كنتَ تُمسك بالحياة بشدة، ففتحتُ يديك لأُعلمك ان السعادة لا تأتي من السيطرة، بل من الثقة.”
التسليم ليس فقط في المآسي الكبرى، بل في أبسط تفاصيل الحياة اليومية. في انتظار الرد على رسالة، في تأخر وظيفة، في علاقة تتغير، في حلم يبدو بعيدًا. كل لحظة نُمارس فيها الصبر، نحن في مدرسة التسليم.
كل مرة نقول فيها:
“ليكن مشيئتك يا رب”، نرتقي درجة في سُلّم الوعي.
تخيل لو أننا كلنا سلّمنا لحكمة الله في كل موقف…
كم من الصراعات ستختفي؟
كم من المخاوف ستذوب؟
وكم من السلام سيملأ الأرض؟
المؤمن الحقيقي لا يُعفى من الألم، لكنه لا يفقد السلام وسط العاصفة. قد يبكي، لكنه لا ينهار. قد يتألم، لكنه لا يتذمّر. لأن داخله شعلة يقين تقول له: “حتى هذا سيعبر.”
اليقين لا يُلغِي الوجع، لكنه يُضيء الطريق خلاله. والطمأنينة لا تأتي من غياب المشاكل، بل من حضور الله في القلب عندما نوقن أن الله يدبّر الأمور، نتحرر من الخوف، ونتنفس راحة جديدة.
في كل تجربة صعبة، الله لا يعاقبنا، بل يُعيدنا إلى جوهرنا. يُعيدنا إلى لحظة الطفولة الأولى عندما كنا نثق دون خوف، ننام مطمئنين لأن أحدًا أكبر منّا يسهر علينا. هذه هي العودة إلى الطفولة الروحية حيث التسليم لا يحتاج إلى تبرير، فقط إلى قلبٍ مؤمن.
حين نعود إلى تلك الحالة، نعيش في سكون، نُصلي بلا تردد، نبتسم رغم الألم، ونتعامل مع الحياة كأنها معلمٌ حكيم، لا كعدو.
كل تجربة تمرّ، تترك فينا بصمة، إما جرحًا مفتوحًا إن قاومناها، أو بصيرةً عميقة إن قبِلناها.
الثقة في الله لا تُبنى في الكتب، بل في المواقف التي تُهزّ فيها الأرض من تحتنا. حين نفقد شيئًا نحبه، حين لا تأتي الإجابة كما تمنّينا، حين تُغلق الأبواب جميعها إلا باب السماء.
عندها فقط نفهم المعنى العميق للتسليم: أن تترك الأمور بين يدي الله وأنت مطمئن أن تدبيره هو الأفضل، حتى وإن لم تفهمه الآن. انها ولادتك الجديدة:
حين يذوب الرفض، يولد السلام.
وحين يهدأ العقل، يتكلم القلب.
وحين يُفتح القلب، تُشرق النعمة.
في تلك اللحظة، لا يتغير الخارج كثيرًا، لا تتغير الظروف ولا الأحداث لكن الداخل يتبدّل تمامًا. تصبح أكثر اتزانًا، أكثر رحمة، أكثر امتنانًا.
تتوقف عن السؤال “لماذا أنا؟”
وتبدأ تقول: “ماذا تريد يا رب أن أتعلم من هذا؟”
هنا تبدأ الرحلة الحقيقية. رحلة النضوج، الوعي، والمحبة. كل ما تحاول تمسك الحياة بإيدك،
تنزلق منك أكتر… لكن لما تفتح إيدك وتسلم، تكتشف إن الله كان ماسكك من البداية.
المعاناة ليست عدوًّا، بل مُعلّمًا متنكرًا. والمقاومة ليست شجاعة، بل خوف متخفٍّ في ثوب القوة. أما التسليم فهو لغة الأرواح الناضجة، التي رأت ما يكفي لتدرك أن الله لا يخطئ في التوقيت، ولا يترك شيئًا بلا معنى.
حين تُسلّم، أنت لا تتنازل عن حلمك، بل تضعه بين يدي من خلق الأحلام. حين تُسلّم، أنت لا تستسلم للواقع، بل تفتح ذراعيك لتقبله بثقة أنه طريقٌ إلى نورٍ أكبر.
وحين تُسلّم، لا تنتهي التجربة، بل تبدأ المعجزة.
هناك لحظة سحرية بين الألم واليقين…
لحظة لما تقول "ليكن مشيئتك يا رب" فتسكن العاصفة الداخلية.
"من قلب رسالتي إلى كل من يسعى لسلام أعمق وثقة أصدق؛
اعلم أن التسليم الواعي ليس ضعفًا، بل ذروة القوة الإيمانية.
أن تترك ما لا تستطيع تغييره بين يدي الله هو أعظم درجات النضج الروحي.
التسليم لا يُلغِي السعي، بل يُطهّره من القلق، ويُغلفه بالطمأنينة.
هو وعد داخلي بأن تدبير الله أصدق من خوفك، وأجمل من خططك.
حين تُسلّم، أنت تقول للحياة:
“أنا مستعد لأفهم ما وراء الألم، لا لأهرب منه.”
وحين تُسلّم، يتسع قلبك لتري النور في عتمة التجربة.
التسليم ليس نهاية الطريق، بل بدايته… بداية السلام الحقيقي، واليقين العميق، والحرية من ثقل السيطرة.
معًا، نختار أن نعيش بسلام مع ما هو، نثق في حكمة الله في كل ما يكون، ونترك قلوبنا تنبض بالإيمان، لتُزهِر الحياة حبًّا، ووعيًا، وسكونًا جميلاً.
معًا، نصنع واقعًا تملؤه المحبة، والوعي، والسلام الداخلي.
Silvana S. Mikhail
Silvana Mikhail